كم من مرة تساءلت عن ماهية الطريق “المثالي” الذي لم تتبعه، أو أرهقت نفسك بتصوراتك لما كانت ستؤول الأمور عليه لو كنت خبيراً و اتخذت القرارات بطريقة مختلفة؟
بالطرف المقابل، كم من مرة شعرت بالامتنان عندما أدركت أنك قد اتخذت قراراً مكنك من تفادي الخسارة أو السقوط، و وضَعَك في موقف أفضل بكثير مما كان من الممكن أن تكون عليه؟
-يدعى هذا النهج من التفكير، أو هذه العقلية ب “التفكير المضاد”، و هو يعد مسقط رأس كل المشاعر، كالندم و الامتنان و الذنب و غيرها. إن تصور الأمور بطريقة مختلفة عما قد جرت هو أمر لا يمكن تفاديه أو مقاومته لدى البشر، حتى ولو أدى بهم الأمر للشعور بالتعاسة و الحزن. لذلك فإنه ليس من المفاجئ أن يصبح تخيُّل مجريات أحداث بديلة عن تلك التي حدثت بالفعل مصدر إلهام العشرات من الأفلام و الأعمال الفنية ك “إنها حياةٌ رائعة”، و “إغلاق الأبواب”، و “القدر”، و العمل الفني الرائع “العودة إلى المستقبل”، كما أنه ليس من المفاجئ أبداً أن هذا النمط من التفكير قد أصبح مادةً دسمةً تتناولها أبحاث علم النفس الاجتماعي.
-من الجدير بالذكر أنه كلما كان الحدث الحاصل أكثر أهمية و تأثيراً، كلما كان تفكيرنا المضاد حوله أكثر شدة و كثافة.
كيف سيكون شكل حياتي المهنية الآن لو كنت قد قبلت فرصة العمل الاستثنائية تلك بدلاً من اللجوء إلى العمل بوظيفة تقليدية؟
ماذا لو كنتُ قد أكملتُ حياتي مع ذلك الشريك الذي انفصلت عنه نتيجة خلاف أراه الآن سخيف و تافه و لا يدعو للانفصال؟
ماذا لو كنتُ أكثر تيقُّظاً و حميتُ طفلي من ذلك الحادث الذي سبب له إصابات بالغة؟
-يعد ما نراه على التلفزيون الوطني عند وقوع كارثة طبيعية ما مثالاً واضحاً على ذلك-كالفيضانات و الأعاصير و حرائق الغابات و ما إلى ذلك-، فكثيراً ما يجري مراسلي القنوات الإخبارية مقابلات مع أشخاص بالكاد نجوا من تلك الكارثة، و غالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص مجروحين نفسياً، و يتحدثون و يتصرفون بطريقة عاطفية للغاية، و غالباً ما يكونون قد فقدوا كل ممتلكاتهم و أموالهم نتيجة تلك الكارثة. تجدهم مع كل ما ذُكر مسبقاً يستخدمون تعبيرات ك “أنا محظوظ للغاية لأنني قد نجوت من تلك الكارثة الفظيعة” ، “أشعر بالامتنان لأنني قد نجوت” أثناء وصفهم لما حدث، و قد تجدهم يشكرون الإله على رعايته لهم و الاهتمام بهم.
-للوهلة الأولى، قد لا تبدو لك ردود الأفعال تلك منطقية، حيث أنه لو كان الله يرعاهم، ألم يكن من الواجب أن لا يخسروا ممتلكاتهم التي قد دمِّرت؟ ألم يكن من الواجب ألا يشعروا بالحزن الذي يجثوا على قلوبهم الآن؟
أفاد بعض العلماء بأن هذا النمط من التفكير قد يكون أداةً فعالة لضبط و تنظيم مشاعرنا، و جعلنا أكثر مرونة و تقبل للخسائر.
مهما كان وضعه فظيعاً، فإنه يمكن للشخص الذي يفكر بهذه الآلية أو النمط من التفكير أن يتخيل بكل سهولة أنه كان من الممكن أن تكون الأمور أسوأ مما هي عليه الآن و لكنها توقفت عن هذا الحد من السوء، فتتدفق في نفسه مشاعر الراحة و الامتنان التي هو بحاجتها في هذا الوقت العصيب من حياته.
-إن السهولة في تخيل و تصور ما كانت ستؤول الأمور إليه هي التي تستدعي لدينا نمط التفكير المضاد. أظهرت دراسة كلاسيكية أُجريت على مجموعة من الرياضيين الأولمبيين أنه يمكن لهذا النمط من التفكير أن يكون شيئاً إيجابياً و سلبياً في نفس الوقت. اتضح من خلال هذه الدراسة أن الحائزين من أولئك الرياضيين على الميدالية الفضية غالباً ما يكونون غير سعداء البتة بإنجازهم الرائع الذي ححقوه، و يخالفهم في هذا الحائزين على الميداليات البرونزية، حيث أن الحاصلين على الميداليات الفضية ينظرون إلى الأعلى -كم كنتُ قريباً من تحقيق البطولة، لكنني فشلت في ذلك- أما بالنسبة للحاصلين على الميداليات البرونزية، فينظرون إلى الأسفل، حيث يرتسم في أذهانهم كم كانوا قريبين من عدم تحقيق أي انجاز و عدم الحصول على أية ميدالية. و بالتالي يمر كل منهما بتجربة عاطفية مختلفة تماماً عن تجربة الآخر.
-بالنسبة لي شخصياً، فأنا أعترف –غير مرتاحاً- بأن هذه النتائج صحيحة.
كنت خلال مرحلة الثانوية و الجامعة أمارس رياضة المصارعة، و كنت في العديد من البطولات أحصل على المركز الثاني أو الثالث. كانت تجربتي مماثلة لتجربة أولئك الرياضيين الذين تم إجراء الدراسة عليهم، فعندما كنت أحصل على المركز الثالث، كنت أشعر بأنني قد حققت انجازاً ملحوظاً و أصبحت من ضمن الحائزين على جوائز و ميداليات، مما كان يشعرني بالارتياح و الرضا عن النفس. أما عندما كنت أحصل على الميدالية الفضية، فكنت أشعر أنني قد هُزمتُ على يد منافسي أمام حشد هائل من الناس، مما كان يشعرني بالتعاسة و الانهزام، و ضياع البطولة.
يعد احتلال المركز الثاني نجاحاً أكبر من احتلال المركز الثالث، لكنك لن تفكر بالأمر هكذا و بهذه البساطة دائماً.
-كثيراً ما يحدث هذا الأمر مع طلابي، و لكن بطرق أقل إثارة. على سبيل المثال، عندما يحصل أحد طلابي على درجة B+ في أحد الفصول، فهناك احتمال كبير بأنني سأجري محادثة مع طالب يشعر بالتعاسة و الحزن، حيث يرتسم في ذهنه أن الدرجة (B+)هي تقريباً الدرجة (A)، و أنه كان بإمكانه تحقيق درجة ال (A)مع قليل من الحظ الإضافي فقط. غالباً ما يحثه شعور الخيبة هذا على تحديد موعد معي في مكتبي، لمعرفة مدى قربه من تحقيق الدرجة (A).
-نادراً ما أجري مثل تلك المحادثات مع طالب متحصل على الدرجة C-))، حيث يرتسم في ذهن الطالب المتحصل على هذه الدرجة بكل سهولة أنه كان من الممكن أن يتحصل على (D) ، أو حتى (F)، فتجده سعيداً جداً بالدرجة (C-) التي حصل عليها.
على الرغم من أن B+)) هي درجة أفضل بكثير من (C-)، إلا أن مشاعرنا لا ترتكز دوماً على المنطق الواضح الصريح.
-من الظاهر أننا لا نستطيع أن نساعد أنفسنا في التخلص من هذا النمط من التفكير، فهو جزءٌ منا، و متأصل فينا، و على الرغم من أنه يسبب لنا في بعض الأحيان الشعور بالتعاسة و الحزن، إلا أنه قد يلعب دوراً إيجابياً في حياتنا أيضاً، حيث بالإضافة إلى أنه يساعدنا على تنظيم و ضبط مشاعرنا و جعلنا أكثر مرونة و ليناً -كما شرحنا أعلاه- ، يعتقد العديد من علماء النفس أيضاً أن هذا النمط من التفكير يساعدنا على بلورة و تحديد ماهية الأهداف الأكثر أهمية بالنسبة لنا، و تحسين امكانيتنا على الاختيار الحكيم لتحركاتنا و مسارات عملنا في المستقبل.