ما الذي تراه عندما تنظر إلى المرآة؟ هل ترى نفسك بطريقة قريبة مما يراك الآخرون عليه؟ هل تقلل من قيمة نفسك؟ أم أنك تبالغ في تقدير نفسك إلى حد أكثر من الصحيّ؟

النرجسية وتأثيرها على تقدير الذات

تكشف دراسة ذكية كيف و لماذا يبالغ الأشخاص النرجسيون في تقدير ذواتهم

يستعرض مؤلفو الدراسة المبينة أدناه في مجلة” الشخصية و الاختلافات بين الأشخاص” الأدبيات المتعلقة بالنرجسية و التصور الذاتي. يقيِّم الأشخاص النرجسيون أنفسهم على أنهم أكثر جاذبية من الآخرين. ليس ذلك فحسب، بل و يستمتعون بالتحديق في أنفسهم و تجربة الإحساس بالإعجاب و الثقة بالنفس.

النرجسية بين المتعة الظاهرة والصراعات الخفية:

على الرغم من تلك المتعة التي يشعر بها النرجسيون عند التحديق بذواتهم، إلّا أنهم يعانون من مشكلة كامنة غير ظاهرة. حيث يُظهر المسح الدماغي للأشخاص النرجسيين زيادةً في تدفق الدم لديهم بما يتناسق مع ما بداخلهم من صراعات و مشاعر سلبية، مما يكشف حقيقة شعورهم بعدم الأمان الداخلي التي يخفونها تحت قناع احترام و تقدير الذات.

على الرغم من أن للنرجسية بعض الفوائد، إلا أنها سلبية بشكلٍ عام. يبالغ الأشخاص النرجسيون في تقدير مقدرتهم على القيادة، لا يأخذون بالنقد البناء، يتخطون الحدود الأخلاقية، يخلقون بيئة سامةً و يأخذون أكثر من نصيبهم العادل من أي فائدة أو ربح.

أنواع الشخصية النرجسية: العظمة والهشاشة الداخلية

يوجد نمطان من النرجسية المرضية، النرجسية التي يُصاب صاحبها بالعظمة و النرجسية التي يكون صاحبها هشٌّ و ضعيف داخلياً. وجدت الأبحاث أن النرجسيين المصابين بالعظمة يبدون أقل انزعاجا مما هم عليه بالفعل و مما يعتقده الآخرون، ربما يكونون أكثر نرجسية بشكل مزاجي، و أكثر عظمة في جوهرهم. يُعتقد من ناحية أخرى بأن النرجسيين الضعفاء يستخدمون مظاهر الاستحقاق و العجرفة و الغرور و التفاخر بالنفس من أجل التستر على مشاعر العار العميقة و الشك بالنفس و انعدام الأمن لديهم.

النماذج السببية للنرجسية:

يوجد نوعان من النماذج السببية الأساسية للنرجسية:

نموذج التحليل النفسي:

يقول نموذج التحليل النفسي أن النرجسية ما هي إلا عبارة عن دفاع ضد التقليل من قيمة الذات، و تعويض مبالغ به عن الشعور الداخلي بعدم الكفاءة. 

ونموذج التعلم الاجتماعي: 

أما نموذج التعلم الاجتماعي فيقول أن النرجسية تنشأ لدى الفرد بسبب الثناء عليه و تقديره بشكل مبالغ به دون أن يقدم ما يستحق ذلك.

دراسة شتاينر: تحليل التصور الذاتي للنرجسيين باستخدام تقنية الإرتباط العكسي

قام العالم شتاينر برفقة زملائه بإجراء دراسة ذكية تمكننا من التوصل لفهم أعمق عن كيفية تقييم الأشخاص النرجسيين لذواتهم. يُعرض على الأشخاص المشاركين في هذه الدراسة عدة أزواج من الصور المشوهة و يُطلب منهم تقييمها بشكل سريع للغاية و في كثير من الأحيان يكون من غير المسموح لهم التخلص من النتائج، و هو إجراء يسمّى “الارتباط العكسي”. من خلال النظر في الارتباطات بين التقييمات المختلفة للصور( على سبيل المثال، تقييم الصورة الأكثر جاذبية، و غيرها من التقييمات) يمكننا تحديد كل من وظيفة العظمة الكامنة لدى الفرد (بالإشارة إلى نموذج التعلم الاجتماعي) و الدور الذي يلعبه عدم الأمان الداخلي(بالإشارة هنا إلى  نموذج التحليل النفسي).

كان المشاركون في الدراسة 96 طالباً جامعياً، تتراوح أعمارهم بين 18و25 عاماً، 56 منهم من النساء. شاركوا في تجربتين، الهدف من التجربة الأولى هو البحث عن عدم الدقة في تصور الأشخاص النرجسيين الذاتي لذواتهم، أما الثانية، فالهدف منها هو البحث عن التشوهات في كيفية رؤية المشاركين الجذابين لأنفسهم. في كلتا التجربتين، كان تقدير الأشخاص النرجسيين لذواتهم مرتبطاً بمقدار وضوح مفهوم الذات لديهم و بنوع فرعي من النرجسية.

يكشف وضوح مفهوم الذات عن مدى هشاشة أو مدى غموض فكرة الذات. على سبيل المثال، بإمكانه تقييم كل من عدد المعتقدات المتضاربة التي يمتلكها الفرد عن نفسه، شعور الفرد بأنه ليس كما يجب أن يكون، صعوبة مشاركة شخص ما لشخص آخر مع الآخرين.

تم في التجربة الأولى إعطاء المشاركين خمسمائة زوجٍ من الصور المرجعيّة التي تم اختيارها عشوائياً للمقارنة فيما بينها و تحديد أي منها يشبههم أكثر، حيث يتم إعطاءهم التعليمات بواسطة صوت مصدره قاعدة بيانات أساسية. تم بالاعتماد على الخيارات التي اتخذها المشارك تكوين صورة “مركبة” من قبل برنامج حاسوبي يمثل الطريقة اللاواعية التي يرى المشارك نفسه بها، و من ثم تمت مشاركة هذه الصورة المركبة مع الصورة الفعلية الحقيقية للمشارك لحساب مقدار تشوه الصورة الذاتية التي يمتلكها عن ذاته.

بشكل مماثل، بحثت التجربة الثانية في التصور اللاواعي للمشارك لمقدار الجاذبية التي يتمتع بها، و ذلك من خلال مقارنة هذه التصورات مع الصور المركبة التي تم تكوينها بواسطة البرنامج الحاسوبي في التجربة الأولى، ثم تم تقييم الصور من قبل حكام مستقلين باستخدام نهج تم التحقق من صحته. قامت مجموعات مختلقة من الحكام بالمقارنة بين الصور الفعلية للمشاركين و الصور المركبة التي تم تكوينها عنهم في التجربة الأولى لتقدير مدى اختلاف التقييم الذاتي للمشاركين للجاذبية التي يتمتعون بها عن التقييمات التي تم أخدها بالإجماع من قبل الحكام المذكورين.

نتائج الدراسة: تشوهات التصور الذاتي والنرجسية

كان لدى أولئك الذين يعانون من وضوح أقل لمفهوم الذات تشوه أكبر في كيفية رؤيتهم لأنفسهم مقارنة بغيرهم. شكل انعدام الأمن النرجسي(نموذج التحليل النفسي)، و ليست العظمة النرجسية (نموذج التعلم الاجتماعي)، 75 بالمائة من العلاقة بين وضوح مفهوم الذات و التصور الذاتي المشوه للفرد عن ذاته، مما يدعم نموذج التحليل النفسي.

كان للعظمة النرجسية تأثير معاكس، من خلال إضعاف الرابط بين وضوح مفهوم الذات و الصورة الذاتية المشوهة بنسبة 25%. على نفس المنوال، كانت زيادة تقدير الفرد الذاتي لذاته مرتبطةً بشكل كبير مع انعدام الأمن النرجسي لديه و ليس مع العظمة النرجسية. كلما زاد ميل المشاركين لإبقاء أنفسهم داخل دائرة الأمان، كلما شعروا بأنهم أكثر جاذبية مما يعتبره الآخرون.

خلص مؤلفو الدراسة إلى أن:

• الأفراد الذين يعانون من نقص في وضوح مفهوم الذات، لديهم تصور ذاتي أكثر تشوهاً عن ذواتهم.
• يتم التوسط في العلاقة بين ضعف وضوح مفهوم الذات و تكوين صورة ذاتية مشوهة لدى الفرد من خلال عامل إخفاء الفرد لذاته و الذي هو عامل من عوامل الضعف النرجسي الذي يُعزى إلى نموذج التحليل النفسي.
• يتمثل التشوه في إدراك الفرد لذاته من خلال الضعف النرجسي بالتعزيز الذاتي.

التبعات النفسية للنرجسية:

ضعف وضوح مفهوم الذات:

إن هذه النتائج كافية و وافية، لكن و كما هو الحال دائماً، هناك ما يبرر إجراء المزيد من الاستقصاءات و الأبحاث. أيّاً يكن، فإن هذه الدراسة تقلل من عدم الدقة في تصور الأشخاص لذواتهم باستخدام تقنية تستنتج المواقف الباطنية للفرد من خلال سلوكه. غالباً ما يكون سؤال الناس عن نظرتهم لذواتهم موضوعاً غير دقيق.

يُظهر لنا الارتباط العكسي ما يجري خارج حدود الإدراك (و يشبه إلى حد كبير اختبار الارتباط الضمني الذي يقيس الاختلافات بين الأشخاص لحظة إبداء ردود الأفعال عند إقران الكلمات بالصور لإظهار التحيُّز اللاواعي للشخص).

إن أحد أهم النتائج المستنتجة هو الدور الرئيسي الذي يلعبه انعدام الأمن الداخلي لدى الفرد، و دعم نموذج التحليل النفسي القائل بأن الهشاشة و الضعف الداخليين بالإضافة إلى الخلافات و الصراعات المحيطة بالذات و التي لم يتم حلها بعد تؤدي جميعها إلى دفاع مبالغ به من قبل الفرد عن جاذبيته.

لم يدعم هذا البحث نموذج التعلم الاجتماعي، مشيراً إلى أنه قد لا يؤدي الثناء المبالغ به على الفرد دون أن يقدم ما يستحق ذلك إلى إصابته بالنرجسية. لو كان يؤدي هذا الثناء غير المستحق أي وظيفة، فستكون وظيفته تقويض الدافع و الرغبة و الكفاءة الذاتية لدى الفرد من خلال جعل النجاح أمراً من السهل التحصل عليه و الإحساس به، مما قد يزيد من ضعف و تعصب الفرد تجاه الفشل و بالتالي يؤدي إلى زيادة إحساسه بعدم الأمان الداخلي.

التشوه الإدراكي لدى النرجسيين:

يعد وضوح مفهوم الذات عاملاً رئيسياً في حياتنا. كلما كانت هوية الفرد أكثر تشتتاً، كلما كانت فكرته عن الذات أكثر تشوهاً، و يتمثل هذا التشوه في أن يُضخم من ذاته و يعزز منها  بشكل مبالغ به. قد نعوض عدم معرفتنا بأنفسنا عن طريق تضخيمها و تعزيزها دون أن نعي ذلك.

لقد تبين أن وضوح مفهوم الذات يعد عاملاً هاماً أيضاً عندما يتعلق الأمر بالانفصال عن أحدهم. تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين تجمعهم علاقة مضطربة بغيرهم و الذين يعانون من نقص في وضوح مفهوم الذات هم أكثر عرضة للعودة إلى العلاقات غير المرغوب بها فقط لمجرد الشعور بأنهم طرف في علاقة بدلاً من تحملهم مشاعر عدم الاستحقاق و عدم الثقة بالنفس عندما يأخذون القرار بالانفصال و يصبحون عُزَّاب.

على عكس ما يقوم به الضعف النرجسي من تضخيم الفرد لذاته و أخذه صورة مشوهةً عنها، فلم تؤثر العظمة النرجسية بشكلٍ كبير على تكوين صورة ذاتية مشوهة لدى الفرد في هذه الدراسة. بل في الحقيقة حدَّ الشعور بالعظمة من تأثير نقص وضوح مفهوم الذات على الفرد، مما أدى إلى زيادة في دقة إدراك الفرد لذاته. بما يتوافق مع نتائج هذا البحث التي تشير إلى أن النرجسيين المصابين بالعظمة النرجسية(أي التابعين لنموذج التعلم الاجتماعي) هم أكثر نرجسية في جوهرهم بالمقارنة مع النرجسيين المصابين بالضعف و الهشاشة الداخلية(أي التابعين لنموذج التحليل النفسي)، و السبب في ذلك هو أن انشغال النرجسيين المصابين بالعظمة النرجسية بأنفسهم و اكتفائهم بها يحميها.